ذاكرة لا تغفل
وانتظرته كثيرا .. كنت الانسان
الوحيد الذى افتقده .. والذى أحس
غيبته .. والذى لم ييأس من
عودته .. ولم يغفله من ذاكرته
ابدا..
انحدرت بنا العربة من النقب رقم 13 ، ولم يكن عبور النقب بالأمر الهين ولاسيما قبل أن تمتد اليه يد الاصلاح وقبل أن ينسف المهندسون العسكريون جوانبه و يدكون أرضه .
عبرنا النقب بسلام وتحركت بنا العربة فى الطريق الضيق الذى رسمته عجلات العربات بين الاعشاب والآكام ، وقد أخذت
تعلو بنا و تهبط متأرجحة بين موجات الأرض كأنها زورق تتقاذفه الانواء
كان ذلك فى عام 1939 وقد عسكرنا على المرتفعات المشرفة على الواحات البحرية بالقرب من النقب 13 المؤدى الى الطريق الواصل الى سيوة ، وكان كل ما حولنا يبعث على الملل .. فقد سئمت نفوسنا صفرة الرمال والفراغ والوحدة .. ولم يكن هناك ما يهيىء لنا بعض التسلية الا تلك الزيارات التى كنا نقوم بها من آن لاخر لرجال الحدود والمأمور فى استراحتهم فى بلدة الباو يطى و الزبو و منديشا فنبتاع منها بعض البرتقال والبلح .
ولم يكن هبوطنا من معسكرنا الى منخفض الواحات فى ذلك اليوم بقصد زيارة استراحة الجنود أو التجول فى إحدى القرى .. وهما المتعتان الوحيدتان اللتان كان يمكن أن نباشرهما فى ذلك الوقت .. بل كان لأمر جديد لا أكتمكم القول أنه بعث فى نفوسنا غبطة وحبورا .
كنا فى طريقنا الى مسز أندروز .. ولست أشك أن كلمة – مسز – فى ذلك الوقت وفى ذلك المكان كانت من خير الكلمات
التى تقع فى النفس موقعا حسنا وترن فى الاذن رنينا موسيقيا .
كان وجود " مسز اندروز " فى الواحات البحرية أمرا عجيبا ، ولا سيما اذا ما علمنا أنها قذ استوطنت وزوجها الواحات منذ مدة ليست بالقصيرة وأنهما يقطنان فى دار قد شيدت فوق الجبال المسماة جبال مندشيا .
ومع ذلك فلست أظن وجود الزوجين فى مثل هذا المكان هو الحدث الأول من نوعه .. فقد سمعت من قبل عن غيرهما من المستشرقين الذين يقطنون الصحارى المصرية .. ويستوطنون فيها ويجعلون منها مأواهم حتى آخر العمر .. بل انى قد زرت من قبل رجلا يدعى " براملى " يقطن هو وزوجته وابنته فى بيت فى جوف الصحراء على مقربة من برج العرب ووجدت الدار من الداخل والخارج ، آية فى الفخامة والجمال .
وقد وقع بصرى على " مسز اندروز " أول مرة عندما صعدنا لمشاهدة جبل منديشا وتسلقنا الصخور المؤدية الى المواقع
التى كان يحتلها السنوسيون عندما استولو ا على الواحات فى الحرب العالمية الأولى سنة 1917 .
وشاهدنا دار " أندروز " المبنية من الصخور السوداء المقطوعة من الجبل نفسه وأخذنا نطوف حولها ، وكانت الدار فى الواقع على شىء من الروعة .. زاد من تأثيرها الجو المحيط بها والموقع المشيدة عليه .
لست أدرى اذا كانت السيدة ربة البيت أحست بوقع أقدامنا فهبطت الينا لتتبين من نكون ، ام أن خروجها من الدار كان محض صدفة .
على أية حال لقد وجدنا باب البيت يفتح ولمحنا السيدة تواجهنا وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة وأشارت لنا برأسها محيية ، فأجبنا التحية ، وتقدمنا اليها مصافحين .
كانت السيدة فى العقد الرابع من عمرها لم تحاول أن تستر بالأصباغ ذلك الشيب الذى وخط رأسها ، وحسنا فعلت فلقد منحها الشيب وقارا جميلا .. أو جمالا وقورا ، اذ لم يكن جمالها من نوع سريع الأفول .. بل كان جمالا يتعذر على السنين أن تنال منه ، وحتى لو استطاعت أن تنال منه .. فإن اثاره وبقاياه كانت كافية لأن تعلن لك : أن المرأة كانت ساحرة فاتنة ، وكان جسدها على شىء من الضآلة والنحول ، الذى يبديه قويا متماسكا بلا استرخاء ولا ترهل .
ولا أظن هناك خير ما ألخص به وصف المرأة من أنها كانت – رغم يقين الناظر اليها ، من انها بلغت الاربعين ، أو جاوزتها ذات رقة تسبى ولطف يأسر .. وأن الانسان لا يستطيع الا أن يحس رغبة فى الجلوس اليها و الحديث معها .
أم ترانى كنت واهما ..؟ وأن طول حرماننا من رؤية نساء متمدينات متعطرات متأنقات كان هو سبب اعجابى بالمرأة .. وأنها لم تكن أكثر من كعكة فى يد اليتيم – والكعكة فى يد اليتيم عجبة - !!
قد .. وقد .. فانى لا أكتمكم القول ، أننا فى تلك الفترات التى كان يطول بنا البقاء خلالها فى الصحراء .. كان مجرد رؤيتنا لثوب ملون .. يبعث فى نفوسنا نشوة و يملؤ نا طربا .
دعتنا المرأة الى التفضل بزيارة دارها .. ولكن موعد عودتنا كان قد ازف ولم يكن لدينا من وقتنا فسحة تهيىء لنا مجالسة السيدة ومشاهدة دارها فأعتذرنا عن الدخول ، واعدين أياها أن نعود فى الغد ، لنتناول معها الشاى فى الساعة الخامسة .
لبينا الدعوة مرحبين وعدنا فى اليوم التالى .. ووقفت العربة أمام سفح الجبل وقفزنا منها انا ورفيقى .. وأخذنا نتسلق الجبل ، وبعد دقائق كنا واقفين أمام الدار نطرق بابها .
وفتح الباب خادم من أهل الواحة ، وقادنا الى حجرة الجلوس وجلست وصاحبى نقلب البصر فيما حولنا ، مأخوذين بجمال الرياش وحسن تنسيقه .. وبعد لحظات اقبلت السيدة وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث حتى احضر الخادم الشاى ، فأخذنا فى احتسائه .
وكان ذهنى يشرد من حين لآخر فى سؤال حيره : أين مستر اندروز ؟
لقد فهمت من المأمور : أن الرجل يقطن مع امراته فى الدار .. ومع ذلك فاننا لم نصادفه فى المرة السابقة .. ولم يخف لاستقبالنا مع زوجته فى هذه المرة .
وكنت اتوقع أن يحضر الينا بين آونة واخرى ، ولكن الوقت مر ، وطال بنا الحديث .. وبدأنا نتأهب للانصراف ولا اثر للرجل فى الدار .
وقبل ان ننصرف جالت السيدة بنا فى حجرات الدار .. وتملكنا العجب مما شاهدنا .. فقد كانت الدار اشبه بمتحف ، ملئت جدارنه بمختلف أنواع الحيوانات المحنطة ، واسلحة الصيد ، والصور الزيتية الرائعة ، والتماثيل الدقيقة
ووقفنا أمام دهليز طويل مظلم ، يؤدى الى باب مغلق .. وأشارت السيدة الى الباب قائلة :
- هذه حجرة مكتب زوجى .. انى شديدة الاسف لأنه لم يخرج للقائكما ، فهو منهمك هذه الايام فى كتابة مذكرات له وهو دائم الخلو بنفسه .. حتى لا يزعجه أحد ، ويقطع عليه حبل افكاره .
وتمتمنا ببضع كلمات نقبل بها اعتذار المرأة .. ولم يكن هنا أسهل من قبوله .. فما كان بنا كثير شوق الى لقاء الرجل .
وترددنا بعد ذلك على السيدة بضع مرات فى أوقات متفاوتة فقد وجدنا فيها كما وجدت فينا : كثيرا من التسلية .. والواقع أنها كانت محدثة ماهرة .. وكانت دائما تملك ناصية الحديث ، فقد كانت أقاصيصها لا تنفد .. وكانت تبدو لنا كلها واقعية ، لا اثر فيها للخيال .
وفى كل تلك المرات التى ترددنا فيها على السيدة لم يبد لنا زوجها اللهم الا ذبالة تتراقص فى حجرته من وراء النافذة فتفيض علينا جوا رهيبا موحشا وتوحى الينا بأن الحجرة مليئة بالأشباح والأرواح .. وأن الرجل المختفى بها ساحر بحرق من حوله البخور ويحضر الجان والشياطين .
وفى ذات يوم دعتنا السيدة لتناول العشاء .. وذهبنا اليها قبل الغسق وجلسنا فى شرفة الدار الرحبة .. نرقب الغروب
وتمدد ثلاثتنا على مقاعد طويلة وشغلنا عن الحديث بمراقبة القرص الاحمر ينزلق ببطء وراء الأفق مخلفا وراءه حواشى وذيولا من الشفق الاحمر .
وسحرنا المنظر المحيط بجماله .. وبدا لنا كلوحة أبدعتها ريشة فنان .. وهل هناك ابدع وأروع من فن الخالق وسحر الطبيعة ؟ ..
بدت الواحة منبسطة امامنا .. وقد قامت فى ركن منها بلدة الباويطى ، واختفت أكواخها المتواضعة ، خلف نخيلها الباسق وأشجارها الكثة الداكنة وبدا العرب عائدين بحميرهم العجفاء ، وقد وضعوا عليها زنابيل العجوة وفى الناحية الاخرى : بدت غرود الرمال الناعمة ، القائمة فى الطريق الى الربو ، وقد ظهرت عليها آثار أقدام الرجال والجمال ، واضحة جلية .. وخاصة بعد أن أنعكست عليها اشعة الشمس المنزلقة ، فتركت لها ظلالا طويلة داكنة .
وتناثرت فى الأفق المرتفعات بمختلف الاشكال والأحجام والألوان ففى اقصى اليمين بدا المرتفع المخروطى الأسود وفى الوسط قامت تلك القباب المستديرة الصفراء ، وفى اليسار بدا جبل آخر كأنه رأس أبى الهول .
وهوى القرص الأحمر وهوت من بعده ذيوله وحواشيه وأخذت الظلمة تتسرب رويدا رويدا .. كأنها اللص يسترق الخطا أو النوم يتسلل الى الجفون .. حتى أحسسنا فجأة أن الليل قد أقبل وأن النهار قد ولى .
وأخيرا تحدث صاحبى فقال للسيدة :
- لقد سلبنا الغروب متعة حديثك .. وأغرقنا فى صمت عميق .. والآن هات بعض أقاصيصك الممتعة .
وضحكت السيدة ، ومدت يدها الى صندوق سجائرها فتناولت واحدة ، وأعطت صاحبى واحدة ... وأخذت أرقب السيجارتين المشتعلتين فى الظلمة .
وبدأت السيدة حديثها قائلة :-
- لا أظن أنكما قد سمعتما عن جالن .
وصمتت برهة حتى تتلقى جوابا بالموافقة .. ولكننى لم أتكلم ، فما كنت أعرف من يكون " جالن " هذا .. وشعرت بخجل من جهلى ، وتمنيت لو أن صاحبىكان يعرفه حتى لا نظهر أمام السيدة بهذا الجهل .. ولكنه لم يتكلم هو الآخر .. وأخيرا عاودت السيدة حديثها :
- حسنا .. ان هذا سيجعل مهمتى أكثر صعوبة .. كان جالن من كبار المكتشفين الذين اكتشفوا مجاهل أفريقيا ، وكان صاحب النظرية القائلة بأن حملات الاكتشاف الصغيرة التى لا تحمل من المهمات والأمتعة ما يثقل حركتها ، أفضل كثيرا فى أعمال الكشف من تلك الحملات الضخمة التى تثقل نفسها بأثقال من المؤن والتوابع .
قام جالن بآخر رحلاته منذ بضعة أعوام فى أوائل الصيف مصطحبا معه زميلا له يدعى هيلز فى مثل شدته وحنكته . وكان فى رفقتهما اثنان من المواطنين السود .. وكان غرضه من الرحلة هو عبور بعض مناطق لم تكتشف بعد فى اتجاه الشمال الغربى من أوغنده .
وكانت المنطقة التى ينويان عبورها منطقة جرداء لا أثر بها للحياة ، أو على الأقل هكذا كانت تبدو على الخريطة ، رغم أن الأقاصيص كانت تقول أنها نقطة آهلة عامرة ، يقطنها قوم لم يستطع أن يصل اليهم مخلوق على قيد الحياة .. وكان هناك من الأدلة ما يثبت صحة هذه الأقاصيص .. فمنذ ما يقرب من عامين قبل بدء الرحلة ، التقى جالن فى احدى رحلاته التى كان يحاول فيها اختراق المنطقة بأحد المواطنين الذى أراه بضع قطع من العملة الذهبية ، وخاتما فضيا ركب فيه فص من حجر أخضر داكن لم يستطع جالن أن يميز كنهه .
وعندما سأل الرجل عن مصدر القطع الذهبية والخاتم أنبأه أنه قد عثر عليها منذ سنوات فى أحد الجبال الكائنة فى اتجاه الغرب ، ولم يرد الرجل أن يعطيه القطع الذهبية ، ولكنه تنازل له عن الخاتم فى لقاء بعض الخرز والحلى .
ومنذ ذلك اليوم والخاتم لا يفارق أصبعه ، وقد أخذت رغبته تزداد فى عبور المنطقة ، واكتشاف المدينة ، حتى كان ذلك اليوم الذى بدأ فيه رحلته فعلا .
بدأ الاربعة الرجال رحلتهم وحلكة الظلام لم تنقشع بعد ، وسار الرجلان الأبيضان يتبعهما التابعان ، وقد حملا أخف ما يمكن حمله من الزاد والمؤن والأمتعة .. وعندما قطعا من رحلتهما ستين ميلا عاد التابعان . واستمر الرجلان فى سيرهما وحيدين .
لم تكن هناك أنهار معروفة فى تلك المنطقة ، ولكن الرجلين العائدين كانا يحملان رسالة من جالن بأنه يتبع فى سيره نهرا صغيرا يجرى فى اتجاه الغرب .
مضت أيام و أسابيع وأشهر ، وما من نبأ عن الراحلين ، وأرسلت فى أثرهما قافلة للبحث عنهما ، وقادها التابعان الى النقطة التى تركا عندها الرجلين .. وقضت القافلة بضعة أسابيع فى البحث والتنقيب ، ثم عادت أدراجها دون أن تعثر لهما على أثر ، ومنذ ذاك الوقت لم تبصرهما عين ولا سمعت عنهما أذن .
ولست أشك فى أن خاتمة جالن بهذه الكيفية لا تبدو الا امرا طبيعيا فما كانت ترجى لمغامر مثله دأب على أن يلقى بنفسه الى التهلكة سوى هذه الخاتمة .. ولقد تقبل الناس نبأ اختفائه ببساطة كأنه شىء كان لابد من حدوثه .. ولا أظن أن هناك مخلوقا قد أفتقده ، أو أحس بغيابه .. اللهم الا مخلوق واحد .
كان هذا المخلوق الذى افتقد جالن هو أنا .
.