حالة غباء !!
كنا فى طريقنا الى الأوبرا لنشاهد فرقة الفنون الشعبية المصرية وسادت بيننا لحظة صمت ، شردت خلالها الأستاذ توفيق الحكيم .. ثم فاجأنى بقوله :-
- تعرف أن الانسان بيصاب بعض ساعات بحالة غباوة عجيبة !
وكنت اعرف هذا .. أعرفه على الأقـل فى نفسى .. ولكنى لم أكن أعرفه فى توفيق الحكيم .
ومرت بخاطرى فى لمح البرق .. حادثة غباوة وقعت فى إحدى ساعات التجلى التى تحدث عنها توفيق الحكيم
وقعت الحادثة فى صباى .. أو على الأ صح فى طفولتى .. وأنا لم أزل بعد فى العاشرة .. وما زالت العائلة تذكرها حتى الان .. وتذكرنى بها كلما بدت على مخائل نجابة .. أو بدرت منى بوادر ذكاء .
وأقربها منذ بضعة أسابيع عندما حضر إلى أخى محمود ليذكرنى بها ، بعد أن قرأ فى الجمهورية خبرا صغيرا فى باب " كل يوم " أن أحد كبار الكتاب قال عنى أننى أذكى انسان فى الشرق الأوسط . ولم أكن مسئولا عن خطأ الكاتب الكبير وخديعته فى وحسن ظنه بى .. ولا كنت أعرف حتى من يكون ، ولا سبب وهمه فى ذكائى بل أخذتها على أنها تشنيعة من محرر باب كل يوم .. واكتفيت بالصهينة .. وبترديد قول القائل " لا يغلبن جهل الناس بك علمك بنفسك " .
ومع ذلك لم يسلم الأمر ممن يذكرنى بغبائى .. أو بحالات الغباء التى أصاب بها .. والتى لا يمكن أن تلتقى مع حسن ظن الكاتب بى .. وحمل الى أخى محمود جريدة الجمهورية وأشار الى الخبر ثم تسأل متخابثا :
- فاكر حكاية عبد الحليم الدكر ؟
وأجبته ضاحكا :
- فاكر ...
وعبد الحليم الدكر .. مقاول .. أو هكذا منذ ثلاثين عاما .. وقصتى معه ، التى يدللون بها على غبائى ، هو أنه زارنا مرة للأتفاق على عملية لا أذكرها بالضبط .. ويبدو أنه لم يحدث إتفاق بينه وبين أهل البيت فخرج والمسألة ما زالت معلقة .. فطلب منى بعد أن خرج أن الحق به لابلغه شيئا ..أغلب الظن أنه زيادة فى السعر المعروض أو شىء من هذا القبيل ..
وكان المقاول يصطحب انسانا لا أعرف من يكون .. قد يكون مهندسا ، أو قد يكون أحد معاونيه .. وكان المطلوب منى ألا ابلغ المقاول الشىء المطلوب ابلاغه الا بعد أن يفارقه .
ولم تكن المسالة برمتها برمتها تعنى لدى شيئا .. لا الموضوع ولا المقاول ولا صاحبه .. كنت أعرف أن المطلوب منى فقط هو أن الحق بالمقاول وأبلغه كلاما بعد أن ينصرف عنه صاحبه .
وخرجت وراء المقاول .. وكانت الساعة حوالى الخامسة بعد الظهر .. ولم يكن مفروضا أن تستغرق المهمة أكثر من بضع دقائق ..
وعندما عدت إلى البيت ..كانت الساعة قد بلغت الثامنة .. ووجدت البيت مقلوبا .. وأخوى قد أنطلقا للبحث عنى .. والبلاغات عن غيابى توشك أن ترسل إلى أقسام البوليس .. والبحث عنى يوشك أن ينتقل من شوارع روض الفرج ..الى الاسعاف ومشرحة زينهم .
وقوبلت بضجة .. وصاح الجميع بى :-
- كنت فين .
وأدهشنى ضجتهم وقلت لهم متسائلا فى برود :
- انتوا مش بعتونى ورا المقاول ؟
- أيوه ..
- مش قلتولى ما تكلموش الا لما يسيبه الراجل اللى معاه ؟
- أيوه ..
- طيب أهو لغاية دلوقت ما سابوش !!
وفعلا .. وقف الرجل مع المقاول على ناصية الشارع يتنافسان .
ووقفت أنتظر انتهاء المناقشة وانصراف الرجل .. وبعد نصف ساعة وجدتهما يتصافحان فأحسست بالفرج بعد طول انتظار .. ولكنى وجدتهما يتحادثان برهة .. ثم يتأبط كل منهما ذراع الآخر ويسيران تجاه دوران شبرا ..
وسرت وراءهما .. منتظرا افتراقهما حتى أبلغ المقاول ما اريد .. ولكنهما بدل أن يفترقا .. استقر بهما المقام على مقهى فى شارع شبرا .. ووقفت على الرصيف الآخر أرقبهما وهما يدخنان الشيشة فى استمتاع وتمهل
وأخيرا .. أخيرا جدا .. نهضا .. وانتظرت أن يودع كل منهما الآخر ويفترقا .. ولكنهما عاودا التأبط والسير فى شارع شبرا ..
وكأى مخلوق امين مطيع .. سرت وراءهما .. كثيرا ؟ .. حتى محطة مصر .
وعبرا كوبرى شبرا .. وعبرته وراءهما .. وانا أسائل نفسى : متى ينويان الافتراق ..
وفى ميدان المحطة وقفا على محطة الترام .. ووجدت الفرج يوشك أن يحل .. وتوقعت – أو تمنيت على وجه ادق – أن يركب الرجل الترام ويترك لى المقاول أخيرا .. لابلغه الرسالة .
وحضر الترام .. وركب الرجل .. وبمنتهى البساطة ركب وراءه المقاول .. وتحرك الترام .. وأنا انظر الى الاثنين فى يأس .. ثم ادراجى أتمشى فى شارع شبرا .. حتى وصلت الى البيت فى روض الفرج ..
ولست ادرى حتى الآن ..أكنت غبيا الى هذا الحد الذى وصمونى به .. أم أن أى انسان فى موضعى كان ستصرف نفس التصرف !
مر كل هذا فى ذهنى مرور البرق .. وتوفيق الحكيم ينتظر منى أن أعلق على ملاحظته .. عن حالات الغباء التى يصاب بها كل انسان .
وأجبته ببساطة :-
- معاك حق .. لكن أنت بتجيلك الحالات دى ؟
فهز رأسه وأجاب :-
- أقربها الجمعة اللى فاتت بس ..
وبدأ توفبق الحكيم يقص على آخر حالات الغباء عنده ..
كان عائدا من الاسكندرية .. فى أوائل الشهر ليقضى فى القاهرة يومين .. وكانت العائلة تقيم فى الاسكندرية والبيت مغلق .. وكان عليه أن يعيش فى البيت وحيدا .. ولم يجد المسألة عسيرة ..اذا لم يكن عليه أن يمضى فى البيت غير سواد الليل ....
ووصل الى البيت فى الساعة التاسعة .. وفى طريقه الى الباب تذكر فلوس النور .. هل دفعها أم نسى أن يدفعها ؟ وإذا كان قد نسى دفعها فهل أنذرته الشركة بقطع النور أم هل قطعته فعلا ؟
لابد أنها تستذوق وترسل له انذارا أولا ..
ولكن هبها لم تستذوق وقطعت النور .. ماذا يفعل كيف يقضى ليلته بلا نور ؟
انه يذكر الطريق الى حجرته ويستطيع الوصول اليها لو أن البيت فى حالته الطبيعية . ولكن الان السجاجيد مرفوعة والاثاث مكوم .. ومعالم البيت قد تغيرت .. كيف يستطيع الوصول الى فراشه .. ويعرض نفسه للأصطدام والكعبلة .. ان أأمن طريقة هى أن ينام وراء الباب مباشرة حتى الصباح .
ولكن لماذا كل هذه الوسوسة .. الا يحتمل أن يكون قد دفع الفلوس .. أو يحتمل أن تكون الشركة استذوقت باعتبار انه فى المصيف .
اجل .. اجل .. يحتمل جدا ..
وأعاد الطمأنينة الى نفسه وتقدم .. ودفع المفتاح فى الباب ثم فتحه .. وقبل أن يخطو خطوة الى الداخل مد يده وضغط زر الكهرباء الموجود فى الدهليز وراء الباب .
ولم يضىء الدهليز .
وضغطه .. ثم أعاد ضغطه ..
واستمر البيت مغرقا فى الظلام ..
وهكذا وقع المقدور .. وتحققت الوساوس ..
وبحلق بعينيه إلى الداخل .. فلم يبصر شيئا .. لا شىء البته .. لا جدران ولا أرض ولا سقف ولا اثاث .. لقد كانت الظلمة فظيعة .. وكان الدخول مستحيلا .
وأغلق الباب .. وعاد أدراجه .. ونادى البواب .. وأخرج من جيبه خمسة قروش وسأله أن يحضر بها شمعا
أجل .. ليس هناك مخرج سوى هذا ..
ووقف الحكيم امام الباب .. وكأنه على بابا أمام الكهف وبعد برهة حضر البواب وسلمه شمعة واربعة قروش ونصف قرش .
وأضاء الشمعة .. ثم فتح الباب ودخل .. وبدت معالم الشقة باهتة تهتز على ضوء الشمعة .. على اية حال انها خير من الظلمة .
المهم أن يحتفظ بها مضيئة حتى يأوى الى فراشه .. ووضع الشمعة على المنضدة .. وبدت له وقد أخذت تذوب ويتساقط ذوبها على حافتها ثم ينزلق على المنضدة ..
وبعديم مالها .. تذوب بمثل هذه السرعة يجب عليها أن تتمهل حتى يخلع ملابسه ويعد نفسه للنوم .
واتجه الى الدولاب .. ثم بدأ يخلع ملابسه . والقى عليها نظرة ، فخيل اليه أنها قد انقرضت الى النصف .. ولم يزل امامه الكثير مما يفعله ..
وبدأ سباق بينه وبين الشمعة .
وساءل نفسه : لماذا لم يحضر هذا البواب الاحمق بضع شمعات .. لو أنه فعل لاطمأن قلبه واستطاع أن يضىء من حجرات البيت اكثر مما أضاء ، ولما اضطر الى ان يحمل الشمعة فى كل روحة له وغدوة .. ولما احتمل لسعتها عندما يسقط ذوبها فوق اصابعه
لقد ابتاع له البواب شمعة واحدة بقرش ابيض انه يعرفه جيدا يعرف مبادئه وحدوده .. لقد تعود أن يبتاع له ترمسا بقرش .. فلماذا يبتاع له شمعا بأكثر من قرش ..
ولكن الترمس ليس كالشمع .. انها مسألة ظلام أو نور ..هل يكثر عليه أن يبتاع بخمسة قروش نورا ؟..
لعنة الله عليه ..
وأخيرا ذابت الشمعة .. وأوى الحكيم الى فراشه على آخر لمحة ضوء ارسلتها الى البيت ..
وفى الصباح استيقظ .. ثم بدا يلم أوراقه وسحب عصاه .. وقبل أن يهم بمغادرة الحجرة ارتطمت العصا بمفتاح الكهرباء ..
وبمنتهى البساطة أضيئت الحجرة .. الله .. ايه الحكاية ؟ ..
ويتمتم توفيق الحكيم القصة او الحالة قائلا :-
- اتارى الدهليز مافيهش لمبة .. واتارينى ضيعت الليلة كلها وانا دايخ مع الشمعة والنور موجود فى البيت كله .. ولا خطرش فى بالى أجرب أى زر تانى غير زر الدهليز .. بالذمة .. دى مش غباوة !!
وكان على أن اتعظ من درس الحكيم .. فأتبين بعد ذلك حالات الغباوة التى يمكن أن يصاب بها الانسان من هذا القبيل .
ولكن حدث وانا فى بلودان .. أن استيقظت فى الصباح الباكر ، وكان انيس منصور ينزل معى فى نفس الحجرة .. وسألته قائلا :
- فيه مية سخنة فى الحنفيات يا أنيس ؟
وأجابنى وهو نصف مغمض :
- امبارح الصبح كان فيه ..
ودخلت الحمام .. ووقفت تحت الدش وفتحت حنفية الماء الساخن .. فنزل الماء باردا .. وانتظرت أن تنتهى دفعة الماء البارد من المواسير ثم يعقبها الماء الساخن ..
وطال انتظارى وأنا اتكتك تحت الدش .. والماء فى بلودان ليس ماء باردا فقط ولكنه مثلج .. وكان على أن أحتمل واتمم الاستحمام بالماء المثلج .. وكلما أحسست بقرصة البرد صحت بأعلى صوتى:
الله يخرب بيتك يا أنيس كأنما هو المسئول عن حنفيات الفندق .
وأخيرا انتهى العذاب وارتديت ملابسى .. وقبل أن أغادر الحمام مددت يدى أغسل الصابونة .. ولم اجد مبررا لاستعمال الحنفية الساخنة ما دامت هى والباردة سواء .. وفتحت الحنفية الباردة فإذا بمياهها تلسع يدى من فرط السخونة .
يا نهار اسود ..
لقد كانت الحنفيات موضوعة خطأ .. كان على الحنفية الباردة حرف H أى حارة ، وعلى الحارة حرف C أى باردة .
أما لماذا لم أحاول أن أجرب الاثنتين .. مع علمى بأن هذا الخطأ يحدث فى كل البيوت .. فلا أظنها أكثر من
حالة غباء
تمت