ليلة خمر
الوطن المحتضر
أداتهم اللسان .. وانتاجهم الكلام
قديرون بلسانهم على احقاق
الباطل وابطال الحق .. يدعون لأمر
وبلا خجل ولا استحياء يدعون لنقيضه
قال لى صاحبى متسائلا :-
-ما بالك يا صاح تعيش فى الدنيا كأنك لست منها ؟
-كيف ؟
-أراك مغرقا فى أوهامك المعسولة .. ممعنا فى الكتابة عن الهوى والعشاق .. مرح الأحلام ، مترنم القلم ، شادى الفؤاد .. تغض الطرف عما حولك من مرير الحقائق والوقائع حتى ليخيل الى انك لا تعيش فى ارضنا هذه .. او انك ثمل لاتحس ولا تفيق .. او انك لست منا ولا يعنيك امرنا .
بل أحس وأشعر وأتألم .. ولكنى أغض الطرف أغضاءة يائس وأتعزى بمعسول الأوهام عن مر الحقائق .. إن كلمات النصح لن تغير ما بقومى ، بل ستزيد النواح نائحا ، والباكين باكيا !! ولخير لقومى من نوح باكى .. ترنم شاد .
-بل نوح باك خير وأجدى .. فالنائح خير مذكر بالمصاب " وذكر اما أنت مذكر " .
-أذكر قوما أحياء فى وطن حى .. أما الموتى فى وطن يحتضر فماذا يجدى معهم ؟
-إلى هذا الحد أنت يائس .. أما عاد يرجى لهذا الوطن خير .. وما عاد يفيد اهله نصح ولا يردعهم نذير ؟
- لا أظن .. حتى ولو فعلنا بهم ما فعل حكيم " الوطن الميت " بأهله .
- حكيم الوطن الميت ؟ وماذا فعل هذا الحكيم باهله ؟
- زعموا أنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والآوان حكيم يعيش فى بلدة عم فيها الفساد واستبد بأهلها الفقر والمسبغة والحرمان ، وانتشرت بها الأمراض والأوبئة ، وشاع فيها الجهل والتواكل والضعف ، وتلفت الحكيم حوله لعله يجد من أهل البلدة فئة صالحة تعينه على أن ينقذ الوطن مما تردى فيه ويصلح حاله ويقيل عثرته ، ولكنه لم يجد سوى الأعراض من القوى والتخاذل من الضعيف .. ووجد سوس الفساد قد نخر فيهم جميعا .. فما ترك أذنا تصغى أو ذهنا يعى .
تلفت الى الحكام ، فاذا بهم فى شغل عن مصالح وطنهم بالعراك على حكمه والتسابق الى امتطاء صهوته ، والتدافع الى جنى ثمار سلطانه ، فلا يكادون يتربعون على دست الحكم حتى يذل الحرص أعناقهم ويغشى أبصارهم ويصم آذانهم ويضعف ذاكرتهم .. فهم لا يبصرون ما كانوا يبصرونه ، ولا يسمعون ما كانوا يقولونه .. واذا بجهودهم قد تركزت فى التشبث بأعناق الحكم والالتصاق بصهوته .
مختلفون والهدف واحد .. مقتتلون والأمانى مشتركة .. يتهم كل منهم الآخر بما هو فيه ، ويعيب كل منهم على صاحبه ما سبق أن أتاه .
يعلنون ما لا يبطنون .. ويقولون ما لا يفعلون .. يدعون التسابق الى مصلحة البلد وهم الى مصالحهم أسبق .. ويدعون الحرص على انقاذ الفقير والعامل والفلاح وهم على ثراوتهم أحرص .
يطالبون بالحرية .. اذا ما أفادتهم الحرية .. ويقتلونها اذا ما كشفت عن سوءاتهم .
أداتهم اللسان .. وانتاجهم الكلام .. قديرون بلسانهم على احقاق الباطل وابطال الحق .. يدعون لأمر ، وبلا خجل ولا أستحياء يدعون لنقيضه .
وتلفت الى العلماء و رجال الدين .. فاذا بهم اتباع جبناء أشبه بشرأبة الخرج .. سائرون فى مواكب الحكام .. محرقين البخور تحت أقدامهم .. فهم موظفون ميرى .. يحرصون على عيشهم أكثر من حرصهم على الدين .. قانعين راضين .. لا يثورون الا بأمر الحكام ، ولا يغضبون الا بأشارة منهم ، ولا يميزون بين الرذيلة والفضيلة الا بأعينهم .. فهم أسبق لنيل رضاء الحكام من نيل رضاء الله .
وتلفت الى الشباب فاذا به رفيع مخنث .. قليل الصلابة ضعيف الاحتمال ، لا صبر له على المكاره ولا جلد على المشاق .
والى الكتاب فاذا بهم أنانيون نفعيون منافقون .. لايحركون أقلامهم الا للاستجداء .. استجداء الحكام أو الجماهير .
والى الشعب فاذا به متخاذل متكاسل مغرق فى القذارة .. قذارة الخلق والجسد والثياب والدار .
وهكذا لم يجد الحكيم من حوله معينا .. بل كان الكل عونا فى الانهيار والتدهور وحليفا للعدو المثلث " الفقر والمرض والجهل "
وفى ذات يوم روع الناس بالحكيم يعدو فى الطرقات باكيا مولولا وقد شق ثيابه ، ولطم خديه ، وأخذ يصيح مستنجدا :
- آه .. آه .. الى الى النجدة النجدة المعونة المعونة .. الغوث الغوث .
وأقبل الناس عليه يسألونه فى فزع وارتياع :
- ماذا بك ؟ ماذا أصابك ؟ قل .. أنطق .
واستمر الرجل فى عويله وبكائه حتى تكاكأت عليه البلدة وهو ممعن فى الصراخ والنواح ، وأخيرا نجحوا فى تهدئته .. وأخذوا يسألونه فى الحاح :
- قل لنا ماذا بك ؟ ماذا حدث أيها الشيخ العادل الحكيم ؟
- انه يموت .. انه يحتضر .. أدركوه ، أغيثوه .
- من هو ؟ من تعنى ؟
- الوطن ! الوطن يحتضر ..انه يلفظ آخر أنفاسه ... ان لم تنجدوه فعليه العفاء !!
وضج القوم بالضحك .. وهتفوا ساخرين :
- لقد جن الشيخ !
ثم صاحوا :
- عد الى بيتك واياك أن تقلقنا بمثل هذه الخزعبلات . أى وطن هذا الذى يحتضر ؟ أكل هذا الصراخ والبكاء لأجل هذه الأكذوبة .. والله لو عدت لمثلها أيها المخرف لجلدناك على سور البلدة .
وعاد الشيخ الى بيته باكيا حزينا وهو ما زال يصيح :
- آه .. آه .. الوطن يموت .. الوطن يحتضر ، أما من منجد ؟ ألا من مغيث ؟
و تفرق أهل البلدة وعاد كل منهم الى عمله وهم يتندرون بالحادثة ويروون خبر جنون حكيم البلدة .
وفى اليوم التالى فوجىء القوم بالحكيم يعدو فى الطرقات مرة أخرى .. وقد اشتد بكاؤه وعلا نواحه وأخذ يصيح بصوت ملؤه الحزن والأسى :
- آه .. واحسرتاه .. واضيعتاه .. لقد مات الوطن ! لقد قتل شر قتلة .. واغتيل شر اغتيال .. أمسكوا القاتل . اقبضوا عليه
لا تدعوه يفلت .. لابد من عقابه .. لقد قتل الوطن .. ولابد من الثأر له .. أمسكوا القاتل .. آه .. آه
دعوه يذهب لدفنه ولا تعطلوه .. قل لنا : متى ستدفن الوطن حتى نسير فى جنازته ؟ وفى أى قبر ؟
وصاح الحكيم :
- ليس المهم دفنه .. المهم هو أن نقبض على القاتل .. أجل .. لابد من البحث عنه والعثور عليه وشنقه فى ساحة البلدة
وهكذا انطلق الرجل فى البلدة يهيم على وجهه باحثا عن قاتل الوطن .. واعتاد الناس أن يبصروه فى كل يوم فى الطرقات وهو يصيح :
- القاتل الشرير .. سأقبض عليه .. لن يفلت منى .. سأنتقم للوطن .. سأردى القاتل وأمثل به وأعذبه عذابا لم يعذبه أحد
ومضت بضعة أيام دون أن يبصر أحد من الناس للحكيم وجها ولم يعد يراه أحد يهيم فى الطرقات .. وأخذ الناس يتساءلون عن مصيره .. فمن قائل أنه هجر البلد .. زمن قائل أنه قد مات .. حتى فوجىء الناس به ذات يوم وقد أقبل يعدو فى الطرقات وهو يثب فرحا ويرقص طربا ويصفق بيديه صائحا :
- أيها الناس أبشروا .. لقد وجدته .. لقد عثرت عليه .. القاتل الشرير .. لقد أمسكت بتلابيبه وضيقت عليه الخناق ولم أمكنه من الفرار .
وبضربة واحدة انتقمت للوطن شر انتقام . لقد ثأرت لكم منه وقتلته شر قتلة .. لم أتوان عن ذلك لحظة واحدة خشية أن يتمكن من الفرار ويعاود فعلته .. انه مغامر شرير لا خلق له ولا كرامة ..انه مجرم سافل كذاب محتال .
واستمر القوم فى ضحكهم على الشيخ حتى صاح بهم رجل :
- من يدرى ! قد يكون الشيخ المجنون قتل انسانا كما يقول .. وقد يكون القتيل راح ضحية جنونه .
وأجابه آخر :
- لا تخف .. إن الرجل واهم .. إنه لا يجسر على قتل نملة .
وصاح الرجل مؤكدا :
- بل قتلته شر قتلة .. وليس أسهل على من أن أثبت لكم ذلك .. لقد قتلته ووضعت جثته فى تابوت داخل البيت .. ويستطيع أى انسان منكم أن يأتى بنفسه ليشاهد قاتل الوطن قبل أن أواريه التراب .. انه عدوكم جميعا ولا بد لكم أن تمتعوا أبصاركم بمشاهدة جثته مسجاة فى النعش .. هيا يا قوم ولاتترددوا .
وسرى الخبر فى البلدة سريان البرق .. وبلغ من بها من حكام وأهل علم ودين .. وعرف كل منهم أن الشيخ قد قتل قاتل الوطن وأنه وضعه فى تابوت فى بيته وأنه على استعدادلأن يريه لكل من يريد رؤيته .
وثار فى نفوس القوم حب الاستطلاع وصمم كل منهم على أن يرى جثة قاتل الوطن .. وبين عشية وضحاها كان أهل البلدة صغيرها وكبيرها وقفوا بباب الرجل يتزاحمون على رؤية القتيل القاتل .
ووقف الحكيم يصيح بهم :
- مهلا .. مهلا ما هذا التزاحم والضجيج ؟ قفوا صفوفا متراصة بعضكم وراء البعض .. سأريه لكم واحدا واحدا .. لن يحرم من رؤيته أحد .. ولكن لابد من النظام حتى تستطيعوا رؤيته كلكم .. أجل .. قفوا هكذا صفا واحدا ..لقد وضعت الجثة فى النعش داخل هذه الحجرة وعليكم أن تدخلوا بنظام واحدا وراء الآخر .. وتلقوا على القتيل نظرة وهو راقد فى نعشه ثم تخرجون من باب الحجرة الآخر وتذهبون فى سبيلكم فاهمون ؟
صاح القوم : أجل .. أجل ..
وبدأ الطابور فى التحرك .. ودلف القوم الى الحجرة واحدا بعد الآخر .. ولم تمض لحظة واحدة حتى أخذوا يظهرون من الباب الآخر خارجين من الحجرة بعد مرورهم بالنعش .
ونظر الناس المتراصون خارج الحجرة والذين لم يأت دورهم للدخول الى وجوه الخارجين الدين رأوا القتيل فأدهشهم ما علاها من وجوم واطراق وحزن واسف ، و أدهشهم قطرات العرق التى تتصبب منها ، وحاول بعضهم أن يسألهم عما رأوه وكيف وجدوا القتيل ومن هو ؟ ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة فقد كانوا ذاهلين عما حولهم شاردى الأذهان زائغى الأبصار يتعثرون فى مشيتهم وقد استغرقوا فى الصمت وبدا عليهم سيما خجل شديد .
وهكذا استمر الناس يخرجون من الحجرة وقد علت سيماهم علامات الحزن والأسى والأسف وكسا وجهوهم ذلك المظهر العجيب الذاهل الشارد .
وأخيرا مروا جميعهم بالنعش ولم يبق فى البلدة كبير ولا صغير الا وأبصر القتيل .. وخرجوا جميعا لا ينبسون ببنت شفة ولا يجسر أحدهم على أن ينظر فى وجه الآخر .
ومرت الأيام فإذا بالأعجوبة تحدث ، واذا بالوطن الميت يحيا ، واذا بالحكام يتحدون ويزهدون فى مظاهر الحكم وينسون المصالح الشخصية ويخلصون فى تصرفاتهم ويهدفون الى منفعة الوطن .. وإذا الأغنياء يعطون الفقير ماله والمظلوم حقه .
واذا برجال الدين يتخلفون عن ركاب الحكم ويتعالون بانفسهم ويتسامون فى تصرفاتهم ويعملون لوجه الله والدين والأخلاق لا لوجه الوظيفة وأكل العيش .
واذا الشباب الفاسد ينصلح ويرعوى ويشتد عوده ويصلب ويسير فى طريقه مؤديا عمله مخلصا لوطنه .
واذا الكتاب يصبحون غير مغرضين ولا أنانيين ويكتبون بما توحيه اليهم شجاعتهم ورأيهم دون أن يستجدوا أحدا .
واذا الشعب المتكاسل المتخاذل ينهض ويشتد وتزول من نفسه ومن جسده ومن ثيابه ومن داره القذارة التى لصقت به حتى أضحت شيئا منه .
واذا الركب كله يسير فى هدوء وسلام واطمئنان ... واذا بخيرات البلدة تكفى أهلها جميعا وتغمرهم بالهناء والنعيم .
وساد الصمت .. ورأيت صاحبى ينظر إلى فى دهشة ويقول متسائلا :
-ولكن كيف حدث هذا ؟ ماذا رأى الناس فى التابوت حتى غيروا ما بنفوسهم ؟
-لاشىء .. لا شىء ابدا .. لقد كان التابوت فارغا .. كل ما فعله الرجل هو انه ألصق بقاعه مرآة .. فكلما أطل فيه انسان أبصر فيه صورته .
وعرف أنه قاتل الوطن .. وأنه بالجزء الذى يقوم به من الفساد فى حدود عمله قد قتل الوطن ، وأن الوطن لا يموت الا اذا تعاون بنوه كلهم على قتله .. كل بما يعمل من شر مهما ضؤل . فهو مسمار فى نعش الوطن .
وأطرق صاحبى برأسه مفكرا ثم قال بعد برهة :
-من يرزقنا بحكيم مثل هذا يرينا قاتل وطنه ؟
-لا فائدة .
-لم ؟!
سيطل كل منا فى النعش ويخرج رافع الرأس .. فاذا ما سألوه عمن رأى .. ادعى أنه أبصر صورة غيره ..
نحن قوم متبجحون مدعون .. لا نخجل ولا نستحى < تمت